عن التغيير الثوري: مشكلات بدائل

هذا مقال حول إعادة النظر في مفهومنا عما يمكن نعته بثورة، و حول تبني التغيير الثوري كوسيلة لتحقيق تقدم إيجابي.

لمدة ثمانية و عشرين يوما، شاطرنا الشعب التونسي القلق، الإحباط، الإثارة، و الدعاء ودموع الألم والفرح و هو يسعى لاسقاط النظام الاستبدادي للرئيس بن علي. ثم فعلنا الشيء نفسه مع الشعب المصري طوال ثمانية عشر يوما من الأحداث التي أدت إلى تنحي مبارك ونقل السلطة إلى المجلس العسكري المصري الذي تعهد بحماية مصر وشعبها إلى حين إجراء عملية انتخابية حرة وشفافة كما نأمل.

إن رياح الثورة تهب، و تهب بشدة. ولكن، على غرار الكثيرين، لا يسعني إلا أن أفكر في ما يمكن لهذه الأحداث أن تحققه من تغيير على المدى البعيد. و على وجه التحديد، ما إذا كان من الممكن أن تتحقق شعارات التغيير والكرامة والحرية، و سيادة القانون والتنمية التي ترددت أصداؤها خلال هذه الانتفاضات، كمكاسب نهائية لنضال هذه الشعوب.

هذا السلوك ذو النبرة التشكيكية طبيعي من شخص جزائري، و يمكن أن نعزوه إلى تجربتنا الخاصة مع القمع و الانتفاضات، وعلى وجه الخصوص إلى أزمة عام 1988 والأحداث التي تلت ذلك، والتي شهدت الانتفاضة الشعبية التي أدت في النهاية إلى انهيار نظام الحزب الواحد وفتح منفذ يتفس الشعب من خلاله هواء حرية غير مسبوقة كان من مظاهرها انفتاح على التعددية الحزبية و الإعلامية. و لكن هذا المنفذ سرعان ما غُلق تاركا مكانه لعشرية كاملة من  النزاع المسلح الذي كلف إزهاق حوالي مائتي ألف من الأرواح و إعادة إنتاج نظام سياسي قمعي منغلق على ذاته جعلنا نشعر بالحنين إلى النظام  البائد… في وقت لاحق ظهر في مجتمعنا اثنان من المفاهيم الخاطئة حول التغيير الثوري. فاليوم منا الذين يخشون الثورات لأنهم يرون بأنها رديف لصراعات تؤدي إلى انعدام الأمن و الاستقرار، و منا أولئك الذين عجّلوا أو يعجّلون نحو الصراع العنيف على افتراض أنه طريق مختصر أو حل أخير لتحقيق تغيير جذري.

إن الثورة ليست بالضرورة نزاعا مسلحا دمويا، ونحن معشر الجزائريين في حاجة ماسة و عاجلة إلى أن نتعلم التمييز بين هذا و ذاك. ربما سيساعدنا إلقاء نظرة فاحصة على ما يشكل أساسا “ثورة” على توضيح هذه النقطة. يمكننا بعدئذ أن نفكر بشأن ما إذا كان ما نراه يحدث في تونس ومصر وغيرها هي في الواقع “ثورات”؟ و ما إذا كنا حقا في حاجة إلى ثورة في الجزائر؟

في خضم التساؤل، وجدت نفسي منجذبا بشكل طبيعي مرة أخرى نحو الدراسة العملاقة: “بنية الثورات العلمية” (“Structure of Scientific Revolutions”). في الواقع، كان نشر هذا المقال والنقاش الذي تولد عنه قد أحدثا ثورة في الطريقة التي يُنظَر بها للعلم والتقدم العلمي. لذلك، بدا لي أن تكون تلك الدراسة مكانا معقولا لبدء الحصول على إجابات لمختلف تساؤلاتي. قد يسأل سائل ما دخل دراسة كهذه في مجال الأزمات السياسية و التغيير السياسي؟ حسنا، الجواب أنه اتضح أن الخصائص الأساسية لهذه الظواهر تتفق إلى حد ما عبر مجالات مختلفة من الفكر، لذلك هناك شيء أو اثنان يمكن أن نتعلمه من إجراء المقارنة.  فأرجو أن تتابع معي..

في مقالته، يقول توماس كوهن (Thomas Kuhn) إن التقدم العلمي ليس مجرد تراكم للحقائق والنظريات، وإنما نتيجة لفترات علمية ثورية حيث تتعرض “النظرة الكلية” للعلماء لنقلة نوعية. هذه النقلة لا تؤثر حصريا على القضايا التي تعتبر مشاكل تستحق التحقيق، ولكنها تؤثر أيضا في كيفية صياغة الأسئلة لمعالجة هذه المشاكل، و في المذاهب التي يتبناها العلماء لحلها. في نهاية المطاف، تتعرض الوقائع المثبتة سابقا والنظريات والإجراءات إما لرفض قاطع، أو تنقيح، أو تتم إعادة بنائها و تقييمها من أجل احتواء “النظرة الكلية” الجديدة.

تحليل كوهن يحدد الشروط الأساسية لمثل هذه العلوم الثورية، والعناصر التي تؤدي إلى وجودها، إضافة إلى طبيعتها وضرورتها للتقدم. النظرة الكلية، أو “النموذج” (Paradigm) هي الفكرة الرئيسية في هذا التحليل، توصف بشكل عام على النحو التالي:

”  […] بعض الأمثلة المقبولة للممارسة العلمية الفعلية – الأمثلة التي تشمل القانون و النظرية والتطبيق إضافة إلى الوسائل و الآليات-  تمثل نماذج تؤسس لظهور تقاليد متماسكة و متجانسة يلتزم بها رواد البحث العلمي”. (ص.10)

الشذوذ و الأزمة

يتقاسم العلماء في تخصص معين مجموعة من التقاليد والمعتقدات التي يستخدمونها كأساس لأبحاثهم قصد تحسين و تطوير النظريات، وشرح البيانات و-على نحو ما- توسيع وتعزيز وجهة نظرهم إلى العالم. يستمر نموذج ما في الهيمنة على طريقة عمل العلماء و توجهاتهم حتى يحدث “الشذوذ”، الأمر الذي يلقي بظلال من الشك على بعض جوانب ذلك النموذج. عندما يصبح من الصعب تجنب الشذوذ أوتجاهله، يلجأ بعض أهل الاختصاص إلى إجراء تجارب لا تخضع للتقاليد المشتركة يمكن أن تؤدي إلى ثورة، حيث يُفتح المجال في نهاية المطاف لظهور نموذج جديد.

الحاجة إلى التغيير، بالتالي، تمثل محور التغيير الثوري إذا كانت نتاج  “انتشار أزمة تبدو حالة شاذة في نظام فكري ما”. و عندما يحدث تحول في النموذج فإن التخصص المعني يخضع لعملية تغيير جذري تدريجي.

تظهر الأزمات العلمية في حُلل مختلفة، ولكنها – في أي حلة ظهرت – تضع الأطر المعمول بها موضع ريب، خاصة حين يعجز أهل الاختصاص عن استيعاب بعض الظواهر و يخفقون في تحليلها. و هذا هو معبرنا إلى علوم السياسة. كتب كوهن نفسه عن التوازي القائم بين الثورات السياسية والعلمية. إن الأزمة، يقول، يميزها “شعور متزايد[..]  أن المؤسسات القائمة لم تعد قادرة على إيجاد حلول للمشاكل التي تطرحها بيئة ساهمت تلك المؤسسات ذاتها في خلقها”، إن الأزمة “تؤثر على أداء المؤسسات السياسية[. .]   بما يجعل الأفراد ينبذون الحياة السياسية بشكل مطّرد ويسلكون – في داخلها- سلوكا غريبا و منحرفا عنها”. إن علامات التخلف والانحراف السياسي والاجتماعي والاقتصادي حاضرة بوفرة في الجزائر، و ما من شك أن طريقة الشعب الجزائري في التعبير و الاستنكار والاحتجاج على  الحالات الشاذة زادت هذه العلامات جلاء.

من هنا يمكن القول إن السمة الأولى للتغيير الثوري هي أن التغيير لا يمكن أن يولد من رحم النظام الذي أدى إلى ظهور حالة الشذوذ في المقام الأول. و لأن الحالة تعتبر شاذة في ظل النظام القائم كان من المنطقي ظهور نظام جديد تكون فيه حالة الشذوذ هذه قاعدة يستوعبها لإيجاد حل ناجع للأزمة.

و من هذا المبدأ، يمكننا، على سبيل المثال، أن نستشرف أن سلسلة المشاورات التي بدأها النظام الجزائري مؤخرا من أجل معالجة وإصلاح التشوهات الموجودة في نظام الحكم الحالي من غير المرجح أن تؤدي إلى تغييرات يمكن وصفها ثورية. نجاح التغيير الثوري يستلزم التخلي عن هيمنة مؤسسة على باقي المؤسسات، و ذلك عن طريق السعي إلى إيجاد فصل و توازن بين السلطات يؤدي في نهاية المطاف إلى إيجاد رقابة على المؤسسات جميعا تجبر أيا منها -إذا استبدت- على الوقوف للمساءلة أمام قضاء مستقل، هذه هي حالة الشذوذ التي تنبع منها جل الأزمات في الجزائر، وهو ما لا  أثر لبديل له في جدول أعمال القائمين على الإصلاحات المقترحة.

البدائل و وجهات النظر المتنافسة

ماذا يحدث عندما يتم الاعتراف بوجود أزمة؟ في هذه الحال، تبدأ مجموعة فرعية من المجتمع العلمي ببناء نموذج جديد يمكنه تدارك الحالات الشاذة. إن ظهور النموذج البديل يعتبر ضرورة ملحة، وإلا فإن عدم استبدال النموذج المرفوض سيشكل عائقا لتطور أي علم من العلوم! ولكن قبل رفض النموذج القديم و التخلي عنه تماما، يلتزم المزيد من الأفراد و يتبنون النموذج الجديد الذي يكتسب مصداقية أكثر فأكثر (من خلال بروز معطيات، وتجارب، وأدوات وأدلة ومنشورات جديدة، الخ) ولكن هذه الشعبية لا تكتسب إلا ببروز أزمات وصراعات جديدة أيضا، وهذه هي السمة الثانية الهامة من سمات التغيير الثوري: أنه يؤدي دائما إلى الاستقطاب، حيث تسعى الأقطاب المتنافسة للدفاع عن النموذج الذي تراه أجدر بالبقاء و أقدر على التحليل و النقد. و بما أن النماذج الجديدة تقضي في نهاية المطاف على التقاليد القديمة وتصورات أهل الاختصاص لما يمثل مشكلا و ما يمثل حلا، غالبا ما تكون النماذج المتنافسة شديدة التباين، ولا يمكن التوفيق بينها؛ و تلك السمة الثالثة من سمات التغيير الثوري.

في ظل هذا التنافس، هناك بطبيعة الحال أولئك الذين يدافعون عن النظام القائم، و أولئك الذين يقودون حملة لطرح البديل، ويمكن أيضا أن يكون هناك منافسون آخرون يدعون إلى بدائل أخرى. و بطبيعة الحال، تحوم الشكوك حول دوافع الأفراد لدعم موقف على حساب آخر.

إن غياب النموذج البديل في الجزائر لهو أمر مقلق حقا. ولكن غيابه هذا يعني أيضا أن المشاورات الجارية –  واللاحقة وما سوف ينتج عنها من إصلاحات أو انتخابات، الخ – ما هي في الحقيقة إلا نتائج الخطاب الدائر بين النظام و مرآته، إذ لا وجود لتيارات متنافسة في تقديم بدائل تشارك بها في هذه المشاورات، و هذا راجع في جزء منه إلى أن النظام لا يسمح بظهورها، ناهيك عن أن يسمح بظهور تيار ينادي إلى نموذج يتحدى النموذج السائد في صلب معتقداته. ما لم تتحرك عجلة التغيير فإن الشعب الجزائري سوف يبقى مكبلا إلى جانب منظار واحد سقيم يرى العالم من خلاله، و نموذج حكم واحد مشوه التفاصيل، رغم أن الحاجة إلى “دم جديد” تبدو صارخة.

ثم إن غياب النموذج البديل يعني أيضا، و هذا هو الأهم، أننا وصلنا إلى محطة من عمر الجزائر حيث أننا بحاجة إلى التفكير، على محمل الجد وبعمق، في صياغة بديل لنموذج الحكم الحالي. و إن لنا فرصا لتغيير ثوري يعتمد أساسا على قدرتنا على تحديد الأولويات بتعزيز الفكر والعقل والقيم والإبداع على حساب التعصب  و العنف والصراع. إن الصراع العنيف لا يمكن أن يكون البديل، فلا يمكن للعنف إلا أن يلقي ستارا على حالات الشذوذ الموجودة يقينا داخل نظام الحكم الحالي   و يمنحها مبرر الوجود بعد أن ينفي عنها صفة الشذوذ، و بذلك تزداد العقبات في طريق بناء نموذج بديل جدير حقا بأن يحل محل النموذج البالي. و إن  نظرة سريعة تلقيها على النزاع المسلح الذي شهدناه في تسعينات القرن الماضي سترجع إليك شاهدة على صحة هذا الطرح.

احتضان التغيير الثوري

يحدث التغيير الثوري في العلوم نتيجة لتغير في النظرة الكلية، و بعد فترات من البناء يحفِّز على القيام به فشل مستمر يميز النموذج أو النماذج القائمة كلما حاولت معالجة أزمة ما أو أزمات. يزداد الدعم لنموذج مرشح للبروز كبديل عندما يعكف المدافعون عنه، بكفاءة، على كشف تفوقه على ما يطرحه غيرهم من بدائل. على ضوء ذلك – و بالرجوع إلى السياسة-  فإن هنالك إجراءات أساسية تؤدي إلى تغيير ثوري يجب أن تحل محل الصراع العنيف مع التركيز على التطوير الشامل والمنهجي للبدائل كشرط مسبق لحدوث تقدم يؤدي إلى تغيير جذري إيجابي.

مع أخذنا لهذا بعين الاعتبار، يمكننا أن نلاحظ أن شعبي تونس ومصر لم ينجحا في الاعتراف بوجود أزمة فحسب، و لكنهم نجحوا أيضا في الوصول إلى تحقيق توافق وطني ودولي بخصوص مدى صحة و جدية هذا الاعتراف، و هو ما يمكن أن يمهد الطريق نحو بناء نموذج بديل. إن الانتفاضات والاحتجاجات والإضرابات ليست أكثر من وسيلة لتحقيق هذا التوافق في الآراء. لذلك فإنه من المبكر أن نصف تلك الأحداث “ثورات”.يبقى أن نرى ما إذا كان الشعبان سوف ينجحان في بناء نماذج جديدة يمكن أن تحقق تطلعاتهم، لأن هذا هو الوقت الحاسم لكشف معدن الرؤية الثورية و العمل الثوري.

ينبغي النظر إلى الثورة من حيث كونها نقلة نوعية، و ثورة كهذه هي بالضبط ما نحتاجه في الجزائر. التغيير الثوري يرتكز على بناء نموذج بديل للحكم، و على تحول في القيم و طرق التعامل، والأهم من ذلك تحول في المؤسسات التي تجسد هذه القيم وتنظم المعاملات.

نحن في حاجة ماسة لوضع نموذج جديد للحكم حيث نتصور ونبني نظاما يكون صالحا لنا جميعا، نستعيد فيه و من خلاله القدرة على تحديد ما يناسبنا من أحكام و قيم، في استقلالية تامة عن النظم المستوردة. نحن بحاجة إلى إعادة تحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، و بين الشعب و مؤسسات الدولة، و بين النظام والمعارضة، وذلك لبناء نظام شفاف منفتح على معارضة حقيقية فعالة يمكنها وضعه موضع المساءلة. علينا أن نتبنى لا أن نهاب التغيير الثوري لأنه سبيلنا الوحيد لتحقيق تقدم نوعي و دائم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Post comment