ظاهرة القراءة: والترقي من التلقي الثقافي إلى بدايات الفعل الحضاري – الجزء الأول
لا شك أن القراءة تعد من السبل الرئيسية لبناء الفرد ونمو المجتمعات ورقي الحضارات، فهي توسع المدارك وتساهم في تفشي الأفكار والمعارف… إلى آخره من العبارات والاستعارات التي اعتدنا سماعها وترديدها من هنا ومن هناك …
يكاد يخلو هذا الكلام من المعنى لكثرة ترديده… وإنه لمن الملفت للانتباه حقا أن الكثير ممن يتحدث في موضوع القراءة، يغلب عليه طابع إنشائي يكاد يكون رومنسيا في التعاطي، تراه سرعان ما يصرح، كما افتتحت أنا للتو، بمدى أهمية القراءة والمطالعة في بناء الأفراد والمجتمعات والحضارات ولكن، غالبا، دون تحديد واضح لملامح ذلك الدور وكيفية تجسده في الواقع.
فماذا نقصد إذن، تحديدا، عندما نقول إن القراءة من شأنها أن تساهم في بناء حضارة؟ ما الذي يجعل هذا النشاط الإنساني يساهم في هذا البناء بالتحديد؟
هذا التساؤل هو المحور الأساسي للتأملات التي أود أن أشارككم إياها في هذا المقام، خصوصا باعتبار الظروف التي نعايشها حاليا من حجر صحي وتباعد اجتماعي، قد يجعل من القراءة والمطالعة من أهم النشاطات التي يرجع إليها الإنسان للتعامل مع هذه الظروف، سواء كان ذلك للتعاطي مع التحاليل التي يكتبها المحللون أو لاستغلال الوقت والترويح عن النفس.
هي فرصة إذن للاستفادة من هذه الظروف الاستثنائية، استشرافا للتحولات التي من شأنها أن تنتج عنها، للتأمل في القراءة من حيث محورية الدور الذي تلعبه في خضم هذه التحولات باعتبارها ظاهرة أساسية في الفعل الإنساني. سأحوال من خلال هذه التأملات الإجابة عن التساؤل أعلاه باقتراح تشخيص لأنواع القراءة التي من شأنها أن ترتقي بالفرد القارئ إلى درجة بدايات الفعل الحضاري.
وسأقسم هذه التأملات إلى قسمين؛ أحدد في القسم الأول بعض المفاهيم الأولية و الميزات الأساسية للقراءة باعتبارها ظاهرة إنسانية تميزنا عن باقي الكائنات؛ أما في القسم الثاني، فسأطرح فهما لتدرج دورها الحضاري في ضوء هذه الميزات، فأقترح من خلال هذا التقسيم الثنائي شبه إطار تحليلي يشخص مستويات مختلفة لنشاط القراءة وأسباب بعد كل مستوى عن الفعل الحضاري أو قربه منه.
و سأترك تحديد مفهوم “الفعل الحضاري” جانبا، عمدا ، رغم محوريّته في هذا المقام، وذلك لأنه مفهوم مركب أولا، ثم على أساس أننا سنصل معا إلى تحديد جانب من هذا المفهوم على الأقل، حسب نظري له، من خلال سرد هذه التأملات