ظاهرة القراءة: والترقي من التلقي الثقافي إلى بدايات الفعل الحضاري – الجزء الخامس والأخير
انطلقنا من التساؤل حول دور القراءة في الفعل الحضاري، تساءلنا ماذا يمكن أن نعنيه تحديدا عندما نقول إن من شأن القراءة أن تساهم في البناء الحضاري.
وللإجابة على هذا التساؤل اقترحت عليكم شبه إطار تحليلي ينطلق من تحديد بعض الميزات الجوهرية للقراءة كظاهرة إنسانية تدخل ضمن منظومة الترميز الذي يميز الإنسان عن باقي الكائنات، ثم قابلت كل ميزة من هذه الميزات بثلاثة مستويات لنشاط القراءة تتدرج باعتبار فوائدها من العزوف التام إلى النشاط الثقافي ثم إلى بدايات الفعل الحضاري.
الميزة الظاهرية الأولى ميزة فردية، تتعلق بالفوائد الفسيولوجية والإدراكية التي تعود بها القراءة على الفرد، ومثال هذا كمن يقرأ للمتعة الفردية وللترويح على النفس، وهذا جميل ومفيد.
أما الميزة الظاهرية الثانية فهي ميزة تواصلية تتعلق بالجماعة والثقافة، وبالخصوص بجمع وتكديس المعلومات ثم نقلها بين الجماعات عبر الزمان والمكان. ومثال هذا كمن يقرأ ليتثقّف، بمنعى الازدياد من المعلومات حول موضوع ما أو تحسين المهارات في مجال ما، وفي هذا فوائد فردية واجتماعية، ولكن بدون الرقي إلى الفعل الحضاري وذلك بسبب إغفال المرجعية المعرفية الكامنة وراء المعلومة ودورها البنيوي والتركيبي في ربط المعلومات بعضها ببعض لتوليد المعنى وترسيخه.
ثم وصلنا إلى بدايات الفعل الحضاري عند اعتبار الميزة الظاهرية الثالثة للترميز، والتي قابلناها بمستوى معرفي يرتكز على قدرة عملية الترميز على استيعاب التاريخ وصباغته بالخصوصية الفردية والجماعية تبلور نتاج تجارب أفراد وجماعات معينة في زمان ومكان معينين وتعكس رؤيتهم للواقع وتفسيرهم له.
فلكي نرتقي إلى بدايات الفعل الحضاري، وبالتالي إلى تفعيل القراءة حتى تساهم في الفاعلية الحضاري، علينا أولا أن نبتعد عن الكلام عن ظاهرة ونشاط القراءة بالشعارات الخطابية الطوباوية والرومنسية ونركز على جوهرها بدلا عن ذلك؛ فالقراءة -والكتابة تباعا- جزء من عملية الترميز والغاية الأهم هي الوصول إلى القدرة على التدبر والتفكر عن طريق الترميز، فتغدو مجرد أداة أخرى ضمن أدوات الفعل الحضاري بهذا المفهوم.
الفكرة الأساسية التي حاولت إبرازها إذن هي أن كل فعل إنساني يتضمن رؤية معرفية تحتوي على أجوبة للأسئلة الكلية التي تواجه الإنسان وتتأثر بها – بما في ذلك هذه السلسلة… فلا يخلو أي إنتاج رمزي إنساني عبر تلك الأدوات – من كتب وفن وعمارة وغيرها – من التأثر بمنظومة فكرية ومرجعية معرفية ونسق تركيبي، سواء كان من أنتجه واعيا بذلك أم لا، وأحد الجوانب الرئيسية للرقي إلى بدايات الفعل الحضاري عبر هذه الأدوات يكمن في الوعي بهذه الحقيقة، ثم تتبعها وتقفي أثرها لفهم كل تفاعلاتنا اليومية مهما قل أو زاد تركيبا من هذا المنطلق. ولعله من المثير للاهتمام أن القراءة بذاتها هي أحد الوسائل الأساسية التي ترتقي بنفسها لمستواها المعرفي، أي كلما زدنا قراءة، كما ونوعا، كلما زاد وعينا بتجليات مستواها المعرفي هذا.
وختاما لهذه السلسة، أريد أن ألفت الانتباه إلى ما يمكن أن نفقده حين نغفل أو نفشل في تفعيل القراءة – وباقي أدوات الفعل الحضاري – في مستواها المعرفي:
أولا، سنواصل خضوعنا للهيمنة المعرفية والفكرية، وهذا لب الإشكال. فبعدما تخلصت جل الشعوب شكليا من الهيمنة الاستعمارية العسكرية المباشرة في القرن العشرين، لا تزال تعاني ويلات الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، وأولى الهيمنتين أسهل على العقول لأنها من الملموس المباشر. أما ثانيها، فهي أعسر لأنها تستهدف الوجود من جذوره وتستبطن مستويات معرفية ضمنية للصراعات التي تعبر عن تمظهراتها. صراعنا الوجودي إذن لا يزال مستمرا وحلبة السجال التي نحتاج أن نخوض فيها اليوم وغدا هي حلبة معرفية فكرية أساسا لأنها تؤسس للتدافع الذي يشكل وجدان المجتمعات والمفاهيم التي تؤمن بها وتسير من خلالها نحو تشكيل المضمون الاجتماعي الذي يتجسد في المؤسسات والتشريعات التي تنظمها، والتي يمكن اعتبارها من جمل الترميز الإنساني.
هي الهيمنة المعرفية، والخوض في الصراع من أجل الانعتاق منها والتأسيس للاستئناف عبر ذلك الانعتاق، هو ما يحدد ماهية وجود الإنسان؛ فإما أن يكون قناة تعيد اجترار نماذج الغير فيقيمها في ذاته ويستبطنها سلوكه دون وعي منه، فيسهل بذلك استيعابه والهيمنة عليه، أو يكون ثائرا فكريا لتحرير بناءاته الذهنية ولتفعيل مرجعياته المعرفية الكامنة في تراثه بمنظور حاضره فيساهم بذلك في التأسيس للانتقال نحو المضمون الاجتماعي الذي يعبر عن بديل حضاري حقيقي.
ثانيا، سنساهم في حرمان التاريخ مما يمكن لخصوصياتنا المعرفية ورؤيتنا وتفسيرنا للواقع الناتج عن تجاربنا أن تضيفه إلى جملة الإبداع الإنساني المشترك. فإذا لم نبلور تجاربنا ونتاج تراثنا الرمزي -الغني مكانا وزمانا- في رؤى ومرجعيات معرفية تعبر عنها كنا “حضارة لم تكن”، فتندثر تجاربنا دونما توثيق معرفي وفكري من شأنه أن يؤثر في مجرى التاريخ. ومن هنا نتحدث عن المكانة التاريخية وعن استئناف الفعل الحضاري الذي يتوقف على تنمية المقدرة على توليد المعنى وعلى تحديد المفاهيم وعلى إعداد الشوكة التي تذود عن كليهما. فالوعي بتجليات الخصوصية وأثرها في تفسير الواقع هو ما يقودنا إلى تفعيل دورها في صياغة مفاهيم حضارية بديلة وتحليلات معرفية تفسر الواقع وتصنعه من منظور بديل.
ما الهدف من الوجود إذا لم نساهم بوضع بصمة تجاربنا على الواقع فنتطرق للمشاكل التي تواجه الإنسانية اليوم بحلول جذرية أصيلة؟ وهنا تأتي أهمية مقولة المفكر أبو يعرب المرزوقي التي تحث على أن الإسلام دائما يأتي لحل مشكلات وجودية، فالفعل الحضاري الاستئنافي يكمن في إعادة قراءة التراث لتفعيل هذه الأصول بإسقاطها على الواقع المعاش وتحليله وتفسيره والخوض في إيجاد حلول لإشكاليات الساعة، إشكاليات تواجه الإنسانية برمتها، لا الأمة وحدها. ولن يكون انعتاقنا (المعرفي وما ينجر عنه) انعتاقا حقيقيا إلا بالتوجه نحو هذا المنظور العالمي الكوني ونحو توجيهه، فنتصدى بذلك للأبعاد المركبة للفوضى التي يتخبط فيها الإنسان اليوم، فوضى الظلم والفساد والاحتكار والاستغلال وفوضى المعرفة والقيم والأخلاق.
تفعيل القراءة في مستواها المعرفي ومرامها الحضاري إذن يستلزم مجهودا مضاعفا، يربط بين استيعاب النتاج الرمزي للغير بفهم ونقد أبعاده الفكرية وأنساقه المعرفية من جهة، وبين إعادة قراءة نتاجنا الرمزي الكامن في تراثنا لاستيعاب أصوله وتجليات مرجعياته المعرفية من جهة أخرى، ثم إسقاط كليهما على واقعنا المعاش لتفسيره من منظور الحاضر وصياغة وجهته نحو المستقبل.
آمل إذن أن لا يفهم ما قلته خطأ، فهذه التأملات في نشاط إنساني محوري كالقراءة لم تكن دعوة للانغلاق على النفس وصد النتاج الرمزي الذي أنتجه التاريخ بما في ذلك تراثنا، بل بالعكس، هذه دعوة للانفتاح على النقد الحقيقي لذلك النتاج، فنقرأ بذلك لنستوعِب لا لنُستوعَب، وهذا لابد أن يبدأ بالفهم العميق لبنى الذهن وبنى المعرفة، ثم الجرأة على تخيل وصياغة بدائل معرفية ثم القدرة على تفعيلها والذود عنها في الواقع. هذا والله أعلم.