ظاهرة القراءة: والترقي من التلقي الثقافي إلى بدايات الفعل الحضاري – الجزء الرابع
وصلنا في الجزء الفارط إلى أن توظيف القراءة لجمع وتكديس المعلومات، بالرغم مما فيه من فوائد ثقافية واجتماعية، لا يرقى بعد للفعل الحضاري لأنه يغفل الأسس والأطر التركيبية التي تبنى عليها المعرفة. وهذا يتبين لنا جليا عندما ننتقل إلى المستوى الثالث من نشاط القراءة والذي نقابله بميزتها الظاهرية الثالثة أين قلنا إن القراءة، كجزء من عملية الترميز، لا تستوعب مضمون التاريخ فحسب بل تصبغه بخصوصية الأفراد والجماعات الذين يشكلونه في حقبة ما ومكان ما، صباغة تعكس رؤيتهم للواقع و تفسيرهم له في ذلك المجال الزمني والمكاني.
المستوى الثالث من نشاط القراءة، الذي نبدأ من خلاله في الانتقال من التلقّي الثقافي السلبي ذي النزعة التكديسية المعلوماتية إلى بدايات الفعل الحضاري، يشترط وجود وعي بهذه الميزة الأساسية للقراءة ثم القدرة على تقفي أثرها في النتاج الرمزي للمجموعات الإنسانية.
الفكرة هنا هي أن تجارب البشر في زمن ومكان معين تتبلور في نماذج فكرية تشكل بدورها منظومات ومرجعيات معرفية وقيمية وتتشكل من خلالها. ثم تنساب معالم هذه المرجعيات وتتسرب إلى كل أنواع إنتاجهم الرمزي وتتغلغل فيها مؤثرة بذلك على الوعي الفردي وعلى السلوك الجماعي وعلى الممارسة التي ينبني كل ذلك عليها. الوعي بهذا التغلغل هو الخطوة الأولى للتفعيل الحضاري للقراءة، والقدرة على تحديده وتقفي أثاره هو ما يعد، في نظري، ارتقاء إلى بدايات الفعل الحضاري.
لنضرب على هذا مثالا من الساحة السينمائية لتقريب المعنى. فمستجدات العلوم والتكنولوجيا دائما ما تتغلغل إلى الإنتاج السينمائي، مثلا منذ رجوع المهمات الفضائية إلى كوكب المريخ إلى الواجهة من خلال رحلهة كوريوزيتي، تزايدت عدد الأفلام التي أخذت هذه الفكرة الواقعية وصنعت منها أفلاما تسترسل في الخيال، من العيش في كوكب المريخ واكتشاف مخلوقات فضائية فيه إلى غير ذلك. هذا النمط التغلغلي منتشر جدا، ولن يندهش أحد منا من ظهور أعمال فنية وسينمائية توظف تجربة الإنسانية مع الجائحة التي تكتسح العالم حاليا. فالتطور التكنولوجي والعلمي والتجارب الآنية التي تبرزها كانت ولا تزال تفتح آفاق جديدة للتعبير الرمزي لتأويل الواقع واستقراء المستقبل.
كذلك بالنسبة للقراءة، فيمكننا مثلا أن نبدأ في قراءة روايات ألبرت كامو المشهورة، فنتذوق طابعها الأدبي ونستمتع به، مما يزيدنا ترفيها وراحة فيتحقق بذلك مناط مستوى القراءة الأول. كما يمكن أن تزودنا تلك المطالعة ببعض المعلومات شبه التاريخية التي تحويها تلك الروايات، وكذا معلومات حول كتابات المؤلف نفسها فنحقق بذلك مناط مستوى القراءة الثاني من تجميع وتكديس للمعلومات وتثقيف بها. أما في المستوى الثالث، فإننا ننتقل إلى التأمل في النسق التركيبي والنموذج الفكري الذي يربط تلك المعلومات بعضها ببعض وفي أنماط التعابير عنها، فنجدها مليئة بأفكار إيحائية لاستدامة الرؤية الاستعمارية والإمبريالية حول إشكاليات التصادم بين المجموعات الإنسانية – كما قال إدوارد سعيد في نقده لكامو [1]. فنكون بذلك قد ابتعدنا عن الترفيه والتكديس وتوجهنا نحو الأنساق التركيبية والنماذج الفكرية المتضمنة في المحتوى المقروء.
بل يمكننا التعمق أكثر في هذا المستوى المعرفي من القراءة، عندما نتقفى أثر المرجعية المعرفية التحليلية النيتشوية والماركسية في كتابات الراوي، وبالخصوص انعكاس تشخيصهم لظاهرة الاغتراب ونقدهم للحداثة وما تغرسه في الإنسان من شعور بالضياع الناتج عن الإكراه الداخلي. سنجد انعكاسا لكل ذلك في كتابات كامو، كما نجده كثيرا في روايات القرن العشرين، فيتسع مجال النسق الفكري التركيبي لهذه الروايات بل ولا يمكن فهم وجوه التعابير ودلالتها عند أولئك الكتاب من دون الأطر الفكرية والمرجعيات المعرفية الكامنة وراءه هذا التركيب.
وقس على ذلك كتابات كافكا واستبطانها لفكر ماركس وفرويد [2]، والكتابات الأدبية للحركة الرومنسية للقرن التاسع عشر وتأثرها بأفكار سبينوزا حول وحدة الوجود [3] وغيرها لا يحصى، ويتعدى ليشمل كل النتاج الرمزي للإنسان مهما ازداد أو نقص تركيبا.
الأفكار ومرجعياتها المعرفية إذن تتغلغل في النتاج الرمزي الإنساني وتأثر فيه بطريقة مماثلة، والوعي بالمرجعيات المعرفية والنماذج الفكرية التي تقف وراء المنتوج الرمزي – من كتابة وقراءة وغيرها – هو ما يمكننا من النقد الحقيقي لذلك المنتوج، وأحد السبل الأساسية للوصول إلى تحديد رؤى قادرة على بناء وترسيخ منظومات معرفية وقيمية بديلة لها القدرة على النهوض بوعي المجتمعات للوقوف في وجه أخطر أشكال الهيمنة، وهي الإمبريالية المعرفية والفكرية التي تميز حلبة السجال الأساسية بين المجموعات الإنسانية بالأمس، واليوم وغدا.
وهنا تظهر أهمية التشخيص الفلسفي للأستاذ بن نبي عندما تقفى أثر عالم الأفكار على مسار التطور الحضاري للمجتمعات وفرّق بينه وبين عالم الأشخاص والأشياء التي تخضع له وتتأثر به، وهو كذلك ما قصده المسيري عند الحديث عن تأثير النماذج الفكرية واستخدامها كأداة لفهم البنية المعرفية للمجتمع كما بينا في الجزء الفارط.
وبذكر بن نبي، لا بأس بذكر مثال جليّ، في نظري، لمفعول الخصوصية الحضارية في الفعل التاريخي والذي تحدثنا عنه عند تشخيص الميزة الظاهرية الثالثة للقراءة: قلنا إن الترميز لا يدون التاريخ فحسب بل يصبغه بخصوصية الأفراد والجماعات بتوظيف رؤيتهم للواقع وتفسيرهم له: فإذا أخذنا مفهوم النظام البيئي وتأثيره على الحضارة الإنسانية، نجد مثلا أن أعمال دوركايم المواصلة لبعض أفكار مونتسكيو في هذا الجانب تعد من بين الإسهامات الفريدة والأولى في فهم التفاعل بين الإنسان والبيئة من خلال تشخيص وقع “البيئة الفيزيائية” على الاجتماع البشري [4] – هذا ما يقول به الفكر الغربي على الأقل. بينما يمكننا أن نتقفى خطا موازيا لمعالجة نفس الفكرة؛ أي فكرة التقاطع بين النظام البيئي والتشكيل الحضاري، نجده عند بن نبي الذي نعته بالتراب في معادلته الحضارية المعروفة [5]، وقبلهم جميعا عند ابن خلدون في رؤتيه لعوامل المحيط المؤثرة على الإجتماع والعمران [6]. ومن يتتبع معالجة مونتيسكيو فدوركايم لهذه الظاهرة ثم يقارنه بمعالجة ابن خلدون فبن نبي، سيكتشف أثر ومفعول الخصوصيات الحضارية والمرجعيات المعرفية في صياغة النماذج الفكرية البديلة وفي تسلسلها لبلورة ذلك الأثر على تفسير الواقع.
هذه الدراسة الموازية من شإنها استغراق أطروحات أكاديمية برمتها، بل أنا هنا أرى وجوب البحث في استحداث منهج للمقارنة البديلة لتتبع وتشخيص المفاهيم الحضارية المتوازية فكريا، خصوصا في مجالات الدراسات الفكرية وتاريخ الأفكار، كخطوة أولا نحو بلورة وبناء نماذج فكرية بديلة لتفعيل مرجعياتنا المعرفية.
نجد أنفسنا في هذا المستوى من القراءة إذن وجها لوجه أمام الأفكار التي تكمن وراء الإنتاج الرمزي للحضارة الإنسانية، ووجها لوجه أمام المرجعيات المعرفية التي تقوم عليها وبها. الولوج لهذا المستوى من القراءة يكمن في تكثيف القراءة نفسها – والكتابة كذلك – لتصبح وسائل وأدوات للخوض الفكري ولتفعيل الفكر البديل في البناء الحضاري. وهنا، وهنا فقط، يمكننا أن نخطو الخطوات الأولى نحو التفعيل الحضاري للقراءة والارتقاء بها ومعها إلى بدايات الفعل الحضاري.
بهذا نكون قد وضعنا اللبنة الأخيرة في بناء شبه اطارنا التحليلي الذي حاولنا من خلاله الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه في مقدمة هذه السلسلة: ماذا نقصد، تحديدا، عندما نقول إن القراءة من شأنها أن تساهم في بناء حضارة…