ظاهرة القراءة: والترقي من التلقي الثقافي إلى بدايات الفعل الحضاري – الجزء الثالث
ننتقل إلى القسم الثاني من شبه اطارنا التحليلي الذي نحن بصدد بنائه، والذي نحوال من خلاله الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه في مقدمة هذه السلسلة: ماذا نقصد بالتحديد عندما نقول إن القراءة من شأنها أن تساهم في بناء حضارة؟
وقد شخصنا في القسم الأول من هذا الإطار ثلاث ميزات ظاهرية للقراءة، وسنحاول في هذا القسم أن نرى ما يمكن أن يقابلها من مستويات للقراءة كنشاط إنساني. هنا سأقترح أنه يمكننا ربط كل ميزة ظاهرية من تلك الميزات الثلاثة، باعتبار فوائدها، بمستوى من مستويات نشاط القراءة، فنتدرج بذلك من العزوف التام عن نشاط القراءة، إلى ممارستها كهواية وكنشاط ثقافي، ثم الرقي بها إلى مستوى بدايات الفعل الحضاري.
المستوى الأول: من العزوف إلى الرفوف
و لنبدأ بالمستوى الأول لنشاط القراءة، ما أطلقت عليه مستوى الانتقال من العزوف إلى الرفوف، والذي يقابل الميزة الظاهرية الأولى التي قلنا إنها تتعلق بفزيولوجية و إدراك الفرد. فلا يمكن أن تنتقل بنا القراءة تدرجا إلى الفعل الحضاري إلا إذا اتخذناها سبيلا لذلك ابتداء. تساؤلنا في هذا المستوى إذن يتجه نحو كيفية تحفيز الفرد العازف عن القراءة على مزاولتها كنقطة انطلاق؟
وقد ذكرنا منهجنا المقصود في الابتعاد عن الأقوال الإنشائية والرومانسية المعتادة عند الحديث عن القراءة رغم ما لهذا النوع من الحديث من تأثير على النفوس – كأن نقول مثلا كما قال العقاد أن القراءة هي السبيل الوحيد للحصول على أكثر من حياة واحدة [1] أو أنها تصنع كمال الإنسان، كما قال بيكون [2] – وبدون الخوض في أسباب العزوف عن القراءة – التي من شأنها أن تأخذ سلسلة كاملة لوحدها – لعله من الممكن تشجيع العازف عن القراءة على البدء في مزاولة نشاط القراءة بتبيان فوائدها الفزيولوجية والإدراكية التي قد تعود عليه إذا زاولها.
وفعلا، أثبتت العديد من الدراسات العلمية فوائد فيزيولوجية للقراءة؛ كالخفض من نسب التوتر وضغط الدم [3]، والتقليل من حدة فقدان الذاكرة عند الكبر [4]، بل وحتى المساعدة على النوم براحة و بعمق أكثر. فها هو العلم الحديث يروّج للقراءة بإغرائنا بالنوم العميق..! وقد فصل الدكتور فيليبس في حوار له مع جريدة التيليغراف البريطانية، وهو طبيب مختص في علم النفس العصبي، أن دراساته كشفت أن من شأن القراءة أن تخفض من مستويات التوتر بنسبه 68٪ وأنها أكثر فعالية في هذا الجانب من نشاطات الترفيه والاسترخاء المعروفة الأخرى كالتنزه وسماع الموسيقى [5]. كما بينت بعض الدراسات أن قراءة القصص في صفوف ماقبل المدرسة (الحضانات مثلا) مع استخدام تقنيات الإشارة المباشرة إلى الحروف المطبوعة من شأنه أن يزيد من وتيرة نمو مهارات ادراكية في مراحل مبكرة من نمو الأطفال ومن التأثير على قدراتهم على استيعاب عدد أكبر من المفردات [6,7].
القراءة للذهن هي بمثابة التمارين الرياضية للجسم إذن، وهذا ليس مجرد تشبيه إنشائي بليغ، بل هناك علاقة مباشرة بين نشاط القراءة والصحة الذهنية والجسدية. فقد وجدت دراسة أخرى [8] قام بها باحثون بمعهد علوم الأعصاب بجامعة إيموري بالولايات المتحدة الأمريكية، أن الغوص في قراءة رواية خيالية (*) يزيد من عدد الروابط العصبية بين خلايا المخ، وبالتحديد في الجهة اليسرى لقشرة المخ، وهي منطقة مرتبطة بالنشاط اللغوي والحس الحركي معا مما يقترح احتمال وجود آليات مادية مباشرة لتجسّد المعاني والمفاهيم التي يتانولها الأفراد ويتفاعلون معها ومن خلالها. ولاحظ الباحثون من خلال هذه الدراسة أن هذه التغيرات العصبية لم تكن ردود فعل فورية فحسب، بل كان مستمرة لمدة لا تقل على خمسة أيام بعد الانتهاء من القراءة. كما وجدت نفس الدراسة أن قراءة هذا النوع من الروايات يزيد من قدرات الفرد على وضع نفسه في مكان شخص آخر، أي يزيده من القدرة على العطف على الآخر والتضامن معه، وكم نحن بحاجة لمثل هذه الأخلاق في المجتمع الإنساني اليوم.
إذا شخّصنا نشاط القراءة في هذا المستوى إذن سنقول أنه يرتكز أساسا على الفوائد المادية والمعنوية التي تعود على الفرد فيتخذها الفرد سبيلا للرقي بنفسه وجسده وعقله كما بإمكانها أن تهيئه للتفاعل الاجتماعي في شقه التضامني. لكن الحضارة لا يبنيها فرد بعينه أو بعزلة عن المجموعة، فهذا المستوى من نشاط القراءة، الذي يقابل ميزتها الظاهرية الأولى، الفيزيولوجية والادراكية، والتحفيز عليها من هذه الجوانب رغم فوائدها العديدة، لن يرتقي بالفرد إلى مستوى الفعل الحضاري في مفهومه الإجتماعي بل يبقى نشاطه هنا محصورا في الفرد بعينه.
المستوى الثاني: من الهواية إلى الثقافة
الميزة الظاهرية الثانية التي توصلنا إليها في القسم الأول من هذه السلسلة كانت ميزة تجميع وتكديس للمعلومات ونقلها بين المجموعات الإنسانية عبر الزمان والمكان. سنقابل هذه الميزة بالمستوى الثاني من نشاط القراءة، مستوى الانتقال من الهواية إلى الثقافة، والذي يمكن أن نحاول من خلاله تحفيز القارئ المبتدئ -الذي انتقل من العزوف إلى الرفوف في المستوى السابق- على التشبث بالقراءة بتعداد فوائدها الثقافية والاجتماعية التي يمكن أن تترتب عن جمع المعلومات وتكديسها.
ونطرح في هذا المستوى تساؤلين رئيسين؛ أولا: هل من فائدة لتجميع وتكديس المعلومات عبر القراءة؟ ثانيا: هل يرتقي هذا التجميع والتكديس للمعلومات إلى مستوى الفعل الحضاري؟ سنحاول الإجابة عن بعض الجوانب التي يفتحها التساؤل الأول في هذا الجزء، ونترك التساؤل الثاني للجزء القادم بحول الله.
عند البحث في التساؤل الأول، لفت انتباهي دراسة اجتماعية مهمة [1] نشرت بمجلة تنمية الطفل من قبل باحثين من جامعة بنسلفانيا، وجامعة كاليفورنيا ايرفين، وجامعة كولومبيا، الذين قاموا بتحليل بيانات لـ 8650 طفلا على صعيدهم الوطني. وجدت هذه الدراسة أن أحد العوامل الأساسية التي تساعد على التنبؤ بمدى نجاح الأطفال في مستقبلهم في الولايات المتحدة هو عدد المفردات التي يتقنونها (يتقنونها ولاّ يلقنونها؟) قبل التحاقهم بصفوف المدارس؛ أي أنك إذا أخذت أي طفل عشوائيا هكذا من الشارع في ذلك العمر، وتمكنت من تحديد عدد المفردات التي يعرفها، تستطيع أن تستقرئ احتمالات نجاحه الاجتماعي.
و لنأخذ مهلة للتفكّر في هذه النتائج قليلا، والتي يبدو أنها حورت مقولة “قل لي من تصاحب أقول لك من تكون”، لتصبح “قل لي كم عدد المفردات التي تعرفها أقل لك من ستكون”! فبعدد المفردات فقط، يضع هؤلاء الباحثون بين أيدينا دلائل تجريبية لعلاقة ترابطية بين فرص طفل للارتقاء في المكانة الاجتماعية -فيحصل على عمل جيد بمدخول جيد ويرتقي في الرتب- وبين عدد المفردات التي يتقنها قبل سن الدخول للمدرسة، وهذا بغض النظر عن مستواه المعيشي الحالي، أو المستوى الثقافي لعائلته.
هذا في الولايات المتحدة الأمريكية. النقطة التي يجب أن تثير اهتمامنا هنا هي أن منهجية ونتائج هذه الدراسة تسمح لنا بتكوين فكرة جيدة حول تركيبة المجتمع المدروس والقيمة التي تحظى بها القراءة فيه، فهي تثبت وجود قيمة حسية عملية وملموسة للقراءة، فتنمية معجم المفردات يتم بطريقة أساسية عبر القراءة لأن اللغة التي نستخدمها في الكتابة أكثر تنوعا بكثير من الحديث اليومي العادي. نفس الدراسة مثلا، كشفت أن الآباء الذين يعانون من الإجهاد والأعباء والتوتر والذين يعانون من قلة الدعم الاجتماعي غالبا ما يتفاعلون مع أبنائهم -بما في ذلك القراءة لهم- بشكل أقل، مما يؤدي إلى تقليص عدد المفردات التي يكتسبها أبناؤهم. وفي هذا إشارة إلى أهمية تربية الأطفال في محيط يعج بطرق تنمية المفردات، والكتب أساس لذلك.
ولنا أن نتساءل ما هي النتائج التي كانت ستخرج بها مثل هذه الدراسة إذا طبقت على مجتمعاتنا اليوم، ماذا سيكون تأثير معجم المفردات التي يعلمها الفرد على مكانته وقيمته في المجتمع. بتعبير آخر، ما المكانة التي نعطيها للقراءة بعيدا عن الشعارات الرنانة والوصف الإنشائي الطوبوي، وما الذي يستفيده الفرد داخل مجتمعه من جمعه وتكديسه للمفردات والمعلومات، وما هي الاستراتيجيات التي نسطرها في مجتمعنا حتى يكون لذلك مفعول ملموس في الحياة اليومية على المدى الطويل؟
في الحقيقة، وهنا مكمن الإشكال، محاولة الإجابة على هذا السؤال تضعنا في موقف محرج جدا؛ فنحن لا نمتلك معطيات تمكننا من فهم تركيبة مجتمعاتنا أساسا، ناهيك عند تشخيص مفعول نشاط اجتماعي تواصلي كالقراءة أو التعمق في تتبع أثر معجم المفردات على السلوك، وما إلى ذلك… نلحظ إذا غيابا مشينا في الاحصائيات، الشيء الذي يعرقل أي محاولة للبحث الجدي في هذا المجال المهم.
نقطة البداية إذن تكمن في ضرورة فهم التركيبة الثقافية لمجتمعاتنا اليوم، وهذا يتم بواسطة دراسات معمقة وإحصائيات مكثفة لرصد الظواهر المهمة، كظاهرة القراءة في المجتمع؛ كم يقرأ الفرد من كتاب في السنة؟ وماذا يقرأ؟ ولماذا يقرأ؟ وكيف يقرأ؟ وكيف يتفاعل عبر القراءة؟ وكم من كتاب ينشر؟ وفي أي المجالات؟ وكم من كتب تترجم؟ ولماذا؟ كل هذه المعلومات الكميّة والنوعية، معلومات أساسية و ضرورية لفهم تركيبة المجتمع وبالتالي لتحديد مواضع القوة والضعف فيه، ثم لتسطير إستراتيجيات فعالة من شأنها النهوض بالثقافة والفكر.
للأسف، مثل هذه المعلومات صعبة المنال بالنسبة للجزائر – أو ربما غير متوفرة على الإنترنت، أو لعلي لا أجيد البحث جيدا على الإنترنت – مع أنني تمكنت من العثور على الكثير بالنسبة لدول أخرى، وبسهولة. آخر إحصائيات متوفرة عبر بيانات اليونسكو في ما يخص عدد الكتب المنشورة في الجزائر، مثلا، تعود إلى سنة 1996 وكانت حوالي 700 كتاب، بينما ارتفع العدد سنة 2008 إلى حوالي 4000 كتاب [2]. وللمقارنة فإن تركيا نشرت 75 ألف كتاب سنة 2019 ونشرت الصين 440 ألف سنة 2013 ونشرت الطايوان (التي يبلغ عدد سكانها 23 مليون نسمة) 28 ألف كتاب سنة 2010، أما الكيان الصهيوني الغاصب (والذي بلغ عدد السكان فيه حوالي 8.5 مليون نسمة) فقد نشرت به حوالي 8500 كتاب سنة 2018 بارتفاع نسبته 35% مقارنة بسنة 2008 [3]. كما أنه من المهم التنويه بأن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي نجدها ضمن الخمسين دولة الأولى في ترجمة الكتب حسب تقارير اليونيسكو كذلك [4].
الجواب الصادق حول تساؤلنا الأول إذن -بالنسبة للفرد والمجتمع الجزائري- غير قابل للاكتمال، فلفهم الفائدة العملية الملموسة للقراءة في المجتمع، بعيدا عن الشعارات الإنشائية الرنانة، نحتاج دراسات تقوم على منهجيات قويمة لتقفي سلوك القراءة وأثره في مجتمعنا، وفي هذا دعوة ونداء للطلبة والباحثين للعمل الجدي في هذا الشأن.
لنعد إلى القراءة في هذا المستوى الذي نحن بصدده؛ قلنا إن القراءة تزيد من جمع المعلومات وتكديسها، كما تساعد على زيادة معجم المفردات، وفي ذلك فوائد ثقافية اجتماعية، فكل ما قرأت أكثر ازدادت معلوماتك و نمت مهاراتك وتحسنت مكانتك في بعض المجتمعات على الأقل. هذا المستوى كمّي تثقيفي إذن، بل ويمكن أن نربط القراءة في هذا المستوى بما يمكن أن نطلق عليه ثقافة “هل تعلم”؛ وهو ذلك النوع من السلوك نجده عند بعض الأفراد الذين يبدون استعدادا غير عادي للإجابة على أي سؤال بسلسلة من المعلومات الغزيرة: هل تعلم أن كذا وكذا وأن كذا وكذا…! وعندئذ نجد أنفسنا أمام تساؤلنا الثاني الأكثر إلحاحا؛ هل هذه العملية التجميعية التكديسية التراكمية للمعلومات تنتج معرفة؟ هل ثقافة “هل تعلم” من النوع الذي يرتقي بالفرد الذي يقرأ إلى الفعل الحضاري؟
جواب هذا التساؤل سلبي: لا يمكن اعتبار جمع المعلومات والقدرة على استحضارها خلقا وتفعيلا للمعرفة، خصوصا تلك التي يبنى عليها الفعل الحضاري، بل حتى نتاج التثقيف بالتركيز علي هذا المستوى من نشاط القراءة فيه نظر، لأن ما يحدد ماهية المعرفة لا يمكن استيعابه باعتبار ذري للمعلومة يخرج عن منظومة كامنة تربط المعلومات بعضها ببعض في نسق يحدد القيمة المعرفية للمعلومة ذاتها داخله. هذا الربط بين المعلومات يستبطن رؤى معرفية تركيبية لا يكفي تجميع المعلومات للكشف عن نظرتها الكلية للواقع، فهي في هذا كالجشطلت – أو الشكل الكلي- حيث تتأسس المعرفة من بنية كلية تتعدى مجموع أجزائها [1]. وبالتالي لا يمكن لهذا المستوى من القراءة، مستوى جمع وتكديس المعلومات، تراكما وانتقالا بشكل سلبي عبر الزمان والمكان، لا يمكن له أن يرتقي إلى بدايات الفعل الحضاري.
ولنضرب مثالين لتقريب معنى البنية المعرفية التركيبية الكلية التي تؤطر المعلومة فتعطيها قيمتها المعرفية.
تخيل معي أنك تقود سيارة، فتجد في متناولك أدوات مباشرة للقيام بعملية القيادة، كالمقود والمكابح. هذه الأدوات المتاحة هي بمثابة الرموز المباشرة التي تقابل القارئ عند الخوض في قراءة محتوى ما – رموز في مستوياتها الصورية والمجردة كما حددناها في الأجزاء الفارطة من هذه السلسلة. لكن كلنا يعلم أن من وراء هذه الأدوات المباشرة المتاحة للقيادة يقبع محرك لا تصلح تلك الأدوات من دونه، محرك يسير وفق قوانين فيزيائية وميكانيكية -ومعلوماتية اليوم- تحدد في ما تحدد كفاءة الأدوات التي نستعملها وقدرتها على إيصالنا إلى غاية القيادة. وهنا نتساءل كم منا يقود السيارة دون أن يفقه شيئا في كيفية اشتغال المحرك؟ ينطبق هذا على الخوض في عملية القراءة كذلك، فمن وراء الرموز الصورية، فالمجردة ثم المعلومة الذرية التي تمثلها، هناك منظومة معرفية تركيبية كامنة يستبطنها المحتوى المقروء ويقوم عليها، تتدرج بدورها من مستويات هيكلية وبيانية وأدبية وفلسفية، تسخر الترميز للوصول بالقارئ إلى محتوى معين فيترسخ عنده رؤية معينة للواقع.
ولنأخد قنوات الإعلام والأخبار كمثال ثان. فالقنوات الإخبارية – المحترمة على الأقل – غالبا ما تستخدم معلومات صحيحة لصناعة الخبر، ولكنها نادرا ما تقدم تلك المعلومات للمشاهد بتلك الموضوعية المزعومة. طبعا لا، وإلا فقدت وظيفتها التي تستلزم محاولة التحكم في الصورة التي يبنيها المشاهد من خلال تسخير تلك المعلومات الصحيحة وما تصفه من وقائع معينة، بصياغة وتركيب الطريقة التي تنقل بها، وسياق ذلك الطرح، وطبيعة التساؤلات التي تطرح بشأنها والنقاشات التي تثار حولها، وما إلى ذلك، وكل ذلك من شأنه أن يغير من النتيجة التي يخرج بها المشاهد بخصوص تفسير تلك الوقائع، والتي تجدها تختلف من قناة إلى قناة رغم استخدامها لنفس المعلومة الصحيحة. وهذه من الأمثلة البسيطة على ما أطلق عليه المفكر نعوم تشومسكي تصنيع وهندسة الرأي العام [2].
وقد شخص المفكر عبد الوهاب المسيري هذه النزعة المعلوماتية الكمية بما سماه بالعقل المتلقي السلبي كأحد الأمراض التي تعاني منها مجتمعاتنا اليوم. وما يقصده المسيري بالعقل المتلقي السلبي هو بالذات تلك النزعة التي تركز على تجميع وتكديس المعلومات مع الاعتقاد أن الزيادة في المعلومات والحقائق تؤدي تلقائيا إلى فهم صحيح وتفسير دقيق للواقع، أي إلى خلق معرفة. وهذا تصور مشوه للمعرفة باعتبارها حشوا للمعلومات، يقول فيه المسيري إنه: “تصور يتضمن صورة للعقل بحسبانه كيانا سلبيا ….إن هذا الموقف الموضوعي المتلقي المعلوماتي ليس “موضوعيا” وإنما هو “موضوعاتي”، بمعنى أن الدارس يكتفي برصد التفاصيل والموضوعات وتسجيلها دون أن يربط بينها ودون أن يبين ما هو المركزي منها وما هو الهامشي، وما هو المعبر عن النمط الكلي وما هو مجرد واقعة غير ممثلة، وما يستحق الإبقاء وما يستحق الاستبعاد” [2]. بعبارة أخرى، المعرفة تتعدى جمع وتكديس المعلومات، فتركيز غاية القراءة في جمع المعلومات وتكديسها في هذا المستوى يؤدي إلى إغفال الأطر التركيبية الكامنة وراء المعلومة، فيصبح استحضار وترديد المعلومة دون مراعاة للأطر المعرفية الكامنة وراءها عبارات ومقولات فارغة من المضمون الفعلي ومن إمكانية تسخيرها للدفع الفعال.
أما أستاذنا مالك بن نبي فقد حدد بؤرة الإشكال في نزعة التلقي السلبي التكديسي صراحة فربطه بالركود والانسداد الحضاري عندما فرق بين عوالمه الثلاثة حيث يقول في إشكالية البناء والتكديس إنه “من البين أن العالم الإسلامي يعمل منذ نصف قرن على جمع أكوام من منتجات الحضارة، أكثر من أن يهدف إلى بناء حضارة، وقد تنتهي هذه العملية من التكديس ضمنا إلى أن نحصل على نتيجة ما بمقتضى ما يسمى بقانون الأعداد الكبيرة، أعني قانون الصدفة، فكوم ضخم من المنتجات المتزايدة دائما يمكن أن يحقق على طول الزمن، وبدون قصد حالة حضارة، ولكنا نرى فرقا شاسعا بين هذه الحالة الحضارية، وبين تجربة مخططة…تبرهن على أن الواقع الاجتماعي خاضع لنهج فني معين تطبق عليه فيه قوانين سواء في تكونه أم في تطوره” [4].
نقترب إذا بهذا المستوى من القراءة – المستوى الذي يهدف إلى جمع المعلومات وتكديسها ثم نقلها عبر الزمان والمكان – إلى الفعل الحضاري بعض الشيء، و لكن لا يمكننا أن نرتقي إليه بسبب إغفال أو التغافل عن البنى التحتية المعرفية التركيبية للأفكار والمقولات التحليلية المتضمنة في المعلومات التي نصل إليها عن طريقة القراءة.