عن أكاديمية جزائرية للعلوم و التكنوللوجيا: آفاق وتحديات

لا شك أن العلم يعد من أهم محركات التنمية الإقتصادية والإجتماعية اليوم، لذلك كان من واجب العلماء والباحثين توعية باقي شرائح المجتمع وإطلاعها عن مدى تأثير النتائج العلمية في نشاطاتهم اليومية وكيفية الاستفادة من هذه النتائج لتنمية وترقية المجتمع، على العلماء والباحثين أيضا أن يعملوا على توجيه مجهوداتهم الفكرية والعلمية نحو دراسة ومعالجة المشاكل الوطنية والدولية التي لها صلة بالتحديات الراهنة التي تواجهها مجتمعاتهم، هنا يأتي دور أكاديميات العلوم والذي يتمثل في تمكين العلماء والباحثين من تحقيق هذه الواجبات، فأكاديميات العلوم أُطُر تنظيمية يمكن من خلالها تثبيت وتوجيه الجهود العلمية، كما أنها تلعب دور محاور لاكتشاف وتحفيز ودعم ومكافاءة التميّز في البحث العلمي.

وبإعتبارها مراكز فكرية جامعة لخبرات متعددة التخصصات، فأكاديميات العلوم قادرة كذلك على تقديم المشورة لصناع القرار في ما يخص تصور وصياغة استراتيجيات التنمية، بما في ذلك نقد السياسات العلمية للبلد. في الواقع معظم أكاديميات العلوم عبر العالم تتوجه نحو لعب هذا الدور الاستشاري وذلك لضمان الاستخدام اللائق لأحدث النتائج العلمية في تغذية عمل الهيئات التشريعية والتنفيذية المحلية منها والإقليمية.

إذا أخذنا هذا بعين الإعتبار، فإن الجزائر كانت ولا تزال في حاجة ماسة لمثل هذا الهيكل التنظيمي الخبير.

الأكاديمية الجزائرية للعلوم والتكنوليجيا

في أفريل 2013، أعلنت وكالة الأنباء الجزائرية عن مشروع إنشاء أكاديمية جزائرية للعلوم والتكنولوجيا قبل نهاية الثلاثي الأول من سنة 2014. هذا المشروع قالت وكالة الأنباء أنه سيحقق بمساهمة المجلس الوطني الإقتصادي والإجتماعي، و”بتعاون وثيق” مع ممثلين عن الأكاديمية الفرنسية للعلوم. وقد تم بالفعل -رغم التأخر الملحوظ- الإعلان عن تأسيس الأكاديمية رسميا في مارس 2015، وتعيين أعضاءها 46 -من بين 364 مترشح- تم انتقاؤهم من طرف لجنة دولية مكونة من 12 عضوا من أكاديميات العلوم في العالم: فرنسا (ستة أعضاء)، المملكة المتحدة (عضوين)، الولايات المتحدة الأمريكية (عضوين)، ألمانيا (عضو واحد)، السويد (عضو واحد).

والجدير بالذكر أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يتم فيها السعي لإنشاء أكاديمية علمية جزائرية. فقد قامت مجموعة ابن باديس للعلوم (IBScientific) – والتي كانت تنشط بين 2005 و2011 – بدعوة لإنشاء أكاديمية للعلوم تعود إلى سنة 2006 ، كما طُرِح هذا الموضوع على طاولة النقاش خلال مؤتمر عقد بالجزائر العاصمة في أفريل 2007 والذي جمع أكثر من مائة عالم وباحث جزائري متواجدون بالخارج. ورغم أن تلك الدعوة لفتت انتباه الإعلام في ذلك الحين، إلا أن مشروع إنشاء أكاديمية علمية جزائرية الذي كان سينبع من خضم المجتمع الأكاديمي الجزائري نفسه لم يكن ليرى النور، وفقد المشروع المستقل قوته الدافعة قبل ولادته.

أما فيما يخص المشروع الحالي لإنشاء الأكاديمية، والذي بادرت الحكومة إلى إنشائه سنة 2011 -حسب تصريح للسيد محمد صغير بابس، رئيس المجلس الوطني الإقتصادي والاجتماعي- لم يذكر في وسائل الإعلام إلى غاية 2013، والأسوأ من ذلك غياب ذكره في الأوساط الأكاديمية. ما نستنتجه إذن هو أن العلماء والباحثين والأكاديميين الجزائريين، الذين كان ينبغي أن يشاركوا بشكل كامل في وضع أسس هذا الهيكل منذ بداية مشروع بنائه، فضلا عن صياغة أولوياته وخريطة طريقه العملية، لم يتم إشراكهم إلا في المراحل النهائية من تحقيقه.
فهل هذا كاف لإعطاء المشروع شرعيته التي كان ضروريا أن تنبع من خضم المجتمع الأكاديمي الذي يصبوا لتأطيره وخدمته؟

“التعاون الوثيق” مع الأكاديمية الفرنسية للعلوم يثير شيئا من القلق أيضا، فنحن لا ندري ما الدافع إليه، أهو مجرد وجه آخر لسياسة التبعية المستمرة التي يبتلينا بها حكامنا يوميا، أو من الممكن فعلا أن نجد ما يبرره من منطلق خبرة الفرنسيين الراسخة في عتاقة أكاديميتهم العلمية؟

هذه وغيرها من التساؤلات والإستفهامات تأخذ طابعا أكثر جدية عندما نضعها في سياق مجموعة أخرى من القضايا التي تعتبر أساسية عند الإنطلاق في مشروع إنشاء أكاديمية للعلوم، نذكر منها قضية الأولويات وقضية الإستقلالية.

ماذا ينبغي أن تكون أولويات هذه الأكاديمية وكيف يجب صياغتها؟ أي مكان ستحتل هذه الأولويات ضمن أولويات التنمية الوطنية؟ وأي مستوى من الإستقلالية سوف يكون لهذه الأكاديمية ؟

الأولويات

في مقابلة أخرى على القناة الرسمية، خص رئيس الأكاديمية الفرنسية مجال الطاقة بالذكر كمجال رئيسي للتعاون الوثيق بين الجزائر  فرنسا لتحقيق هذا المشروع، حيث عبر عن توقعاته أن الأكاديمية المستقبلية ستقدم مساهمات كبيرة في هذا المجال. مجال الطاقة -كما يعرف الجميع- ذو أهمية قصوى بالنسبة للجزائر، ولكن عندما نضع هذا التخصيص بالذكر في سياق إتفاقية الشراكة المستمرة بين البلدين والأهمية التاريخية التي توليها فرنسا لصحراء الجزائر ومواردها، يمكننا حينئذ أن نتوقع أن هذا “التعاون الوثيق” سيؤدي في نهاية المطاف إلى التأثير على اتجاه تركيز نشاطات الأكاديمية المستقبلية، فتُعطى -مثلا- الأسبقية لمجموعة معينة من الأولويات على حساب احتياجات وطنية ومحلية أخرى ربما يكون التركيز عليها ملحا أكثر.

فهل ستصبح الأكاديمية إذن أداة جديدة لإضفاء شرعية علمية على خيارات النظام في ما يخص سياسة الموارد؟

موضوع الطاقة موضوع جدلي جدا وحساس بالنسبة للجزائر، لا سيما في الآونة الأخيرة وما نتج عن قرار إستغلال الغاز الصخري من استنفار شعبي خصوصا في المناطق الجنوبية للوطن. فاعتمادنا على الوقود الأحفوري -والصخري- كمصدر رئيسي للدخل القومي لا يزال يهدد سيادتنا الوطنية.

بدلا من التركيز على النفط فقط، يجب على الأكاديمية المستقبلية أن تجعل من أولوياتها تقديم المشورة للحكومة الجزائرية حول كيفية تنويع مصادر الدخل القومي، وذلك بإظهار طرق عملية تعتمد على ألوان العلوم لوضع أسس نمو إقتصادي أكثر تعددا وصحة .

من الأحرى في اعتقادي أن هذا “التعاون الوثيق” لإنشاء الأكاديمية كان لا بد أن يشمل دول أخرى، وخصوصا تلك التي نتقاسم معها نفس الشواغل والتحديات، والتي نجحت في إنشاء أكاديميات للعلوم. فمثلا، تجمع كلا من الأكاديمية الإفريقية للعلوم والأكاديمية العالمية للعلوم -التي كانت تعرف بأكاديمية العلوم للعالم الثالث- تحت تنظيمها مجموعة من الأكاديميات العلمية من مختلف الدول السائرة في طريق النمو التي نجحت في وضع مناهج ملائمة لضمان المساهمة الفعالة في سياسات التنمية المحلية والإقليمية. على سبيل المثال، في حين وجود بعض الإختلافات بين هذه البلدان يرجع إلى إحتياجاتهم الخاصة، أغلب أكاديميات العلوم للبلدان السائرة في طريق النمو تتبادل اهتماما مشتركا حول علاقة التعليم الأساسي والتنمية، فتجعل من أولوياتها ترقية التعليم وتعميم العلوم في المناهج التربوية وتعزيز التوعية العلمية في المجتمع. فعلى الجزائر وأكادميتها التفكير بجدية في كيفية إدماج مثل هذه الأهداف ضمن قائمة أولوياتها.

يبدو لي أن اتباع هذا النهج شيء معقول بدلا من -أو على الأقل بالإضافة إلى- التعاون مع أكاديميات عريقة أخرى، لا سيما أن احتمال تضارب أولويات هذه الأخيرة وأولوياتنا لا يستهان به بل ويستدعي منا اليقظة.

إن إنشاء بيئة قادرة على بعث روح البحث العلمي البنَّاء وثقافة الامتياز التي نفتقر إليها حاليا، ينبغي أن يكون من الأولويات العليا للأكاديمية المستقبلية خصوصا في ظل التحديات الراهنة التي تواجه البحث العملي والتعليم العالي في الجزائر. وللوصول لهذا المبتغى، على الأكادمية أن تسعى بإلزام الحكومة وسياساتها التربوية والعلمية بالتزامات أساسية خصوصا على المدى الطويل؛ أولها، الإلتزام بدعم الحرية اللازمة لممارسة العلوم؛ ثانيا، وضع لوائح وآليات ملائمة لدعم الابتكارات الناتجة عن تلك الحرية خصوصا في جامعاتنا، والتي يمكن تحويلها عمليا إلى نمو إقتصادي فعلي؛ ثالثا، الإلتزام بدراسة إصلاحات تعليمية تضع روح العلم -التفكير النقدي والفضول- في صميم المنظومة التربوية.

فكيف يمكننا أن نضمن تلقين الأجيال الآتية المهارات المناسبة لتولي الوظائف التي تخلقها العلوم دون نظام تعليمي قوي يرتكز على مناهج دراسية تشمل مواضيع العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات بشكل لائق؟

الإستقلالية

تساؤلاتنا حول أولويات الأكادمية وعلاقتها بخطط التنمية الوطنية يوصلنا إلى قضية أخرى أساسية وهي قضية الإستقلالية. الإستقلالية التي ستتمتع بها الأكاديمية الجزائرية في تسيير شؤونها هي قضية محورية، خاصة إذا كانت هذه الأكاديمية ستلعب دورا إستشاريا فعليا.

في نفس المقابلة المذكورة أعلاه، أعلن السيد بابس أن: “إنشاء الأكادمية سيشكل جزءا من إستراتيجية الدولة لبناء إقتصاد وطني قائم على المعرفة وتنمية مجتمع معرفي”. فمن الواضح إذن أن الهدف من هذا المشروع -كما يبدو من تصور القائمين عليه- هو إنشاء أكاديمية علمية يستشيرها صناع القرار لتمحيص سياسات البلد خاصة تلك التي تُعنى بالبحث العلمي والتعليم العالي. المشكل هنا هو أنه من الصعب تصور أكاديمية علوم قادرة على الدخول في حوار استشاري جدي قائم على الأدلة العلمية مع الحكومة في حين أن قيام هذه الأكاديمية بنشاطها مرهون أساسا بسياسات وآليات تلك الحكومة!؟

مسألة الإستقلالية مسألة محورية كما ذكرت وحلها أكثر تركيبا مما قد يعتقد المرء؛ فمن جهة، من البديهي أن الإستقلالية شرط ضروري ليتمكن أي هيكل من نقد سياسات بلد ما نقدا بنَّاءا وتقديم توصيات خالية من أي تحيز. ولكن من جهة أخرى، هذه البديهية صعبة التحقيق في الجزائر والسبب يعود إلى وجوب وجود شرط سابق لشرط الإستقلالية، وهو قدرة الأكاديمية على تحقيق وظائفها الأساسية في المقام الأول.

لتوضيح هذه النقطة، علينا أن ننظر إلى الهياكل الداخلية التي تبنى على أساسها الأكاديميات العلمية. فأكاديميات العلوم عادة ما تأخذ شكلين؛ فهي إما عبارة عن مجموعة من العلماء والأكاديميين البارزين، أو مجموعة من المؤسسات والمراكز البحثية. وإذا نظرنا إلى طبيعة البيئة العلمية والبحثية في الجزائر فإننا سنلاحظ غياب أي دعم للبحث العلمي والتعليم العالي خارج إطار الدولة -مثلا من طرف القطاع الصناعي والعمل الخيري،…إلخ- و لذا فإن الإعتماد على الدعم الحكومي والمؤسسات الرسمية الحالية لتنفيذ مشروع بهذا الحجم لا مفر منه بما أن الجزائر باشرت به في هذا الوقت بالذات.

أول تحدي سيواجه الأكاديمية إذا -إن كنا جديين فعلا في إنشاء أكاديمية علمية قادرة على لعب دور إستشاري موضوعي حقيقي في الميدان السياسي- هو السعي لوضع قوانين ملائمة لضمان مستويات كافية من إستقلالية نشاط الأكاديمية وأخرى واقية للحفاظ على هذه الإستقلالية من أي ضغوط خارجة عن هيكل الأكاديمية .

سِجِلُّ الجزائر في ميدان الإستقلالية لا تحسد عليه، ومع ذلك على المجتمع الأكاديمي أن يسعى جديا في التأسيس لهذه الإستقلالية. هذا شيء صعب المنال ولكنه ضروري، ومما يجدر ذكره أن هنالك سوابق يمكن الاستلهام منها؛ نأخذ مثلا أكاديمية العلوم التركية، ففي عام 2011 أعلنت الحكومة التركية أنها ستتدخل في شؤون الأكاديمية بما في ذلك تعين أعضاءها، فانتفض الباحثون والعلماء الأتراك إحتجاجا على حكومتهم وهددوها بالإستقالة الجماعية وبإنشاء أكاديمية مستقلة جديدة إن لم ترجع عن قرارها، ففعلت. الأكاديمية التركية -على الرغم من أنها تعتمد على مؤسسات حكومية- تعمل اليوم بشكل مستقل تماما وبموجب مرسوم حكومي. نفس الشيء ينطبق على أكاديميات العلوم لكل من جورجيا ولاتفيا وإستونيا، فكلها تمول من طرف حكوماتها لكنها تعمل بإستقلالية تامة عنها بموجب مرسومات حكومية كذلك. فالأمر إذن ممكن إذا سُعِيَّ له بجدية.

مما لا شك فيه أنه بدون ضمانات قانونية لإستقلالية الأكاديمية سينتهي الأمر بإنشاء هيكل صوري آخر لن يؤثر تأثيرا حقيقيا للنهوض بالبلاد والمجتمع .

وتبقى أكبر عقبة أمام تحقيق إستقلالية الأكاديمية بعد ذلك هو مدى صرامة النظام القانوني في البلاد، ثم وجود إرادة سياسية حقيقية مستعدة لتشجيع وتعزيز ظهور هيئة مستقلة فعلا كأكاديمية علوم في الجزائر، فعلى المجتمع الأكاديمي الجزائري أن يشمر على ساعد الجد ويأخذ بزمام أموره فيتحد ويتكتل لكي يضمن تأسيسا صحيحا لأكاديمية مستقلة حقا وجب أن تكون في آخر المطاف ملك له ووسيلة بين يديه للنهوظ بالبلاد مجتمعا وإقتصادا.

من دون تأسيس صحيح، خصوصا في ما يتعلق بإستقلالية الأكاديمية، ستكون النتجية هي إنشاء هيئة تعمل تحت سلطة الحكومة، فتستخدمها كما تشاء كلما أرادت إضفاء شرعية علمية على قراراتها. ويتم بعد ذلك تقويض قدرة الأكاديمية على لعب دور إستشاري حقيقي  وإضعاف دورها كمركز لنصرة الحرية الفكرية والعلمية في الجزائر، وبالتالي دورها الأساسي كسائق حقيقي للإبداع والإمتياز الذي نحن في أمس الحاجة إليه لمحاربة الرداءة وحالة الركود المزرية التي تعاني منها البلاد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Post comment